كتاب: فيض القدير شرح الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير **

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فيض القدير شرح الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير **


قال ابن عربي‏:‏ الحروف نوعان رقمية فإذا رقمت صحبتها أرواحها وحياتها وإذا محي الحرف انتقلت روحه إلى البرزخ مع الأرواح فموت الشكل زواله بالمحو ولفظية تتشكل في الهوى فإذا تشكلت قامت بها أرواحها ولا يزال الهوى يمسك عليها تشكلها وإن انقضى عملها فإن عملها إنما يكون في أول التشكل ثم تلتحق بسائر الأمم فيكون شغلها بتسبيح ربها ولو كانت كلمة كفر فوبالها يعود على المتكلم بها لا عليها وهذا معنى ما نطق به هذا الحديث فجعل العقوبة للمتلفظ بها بسببها وما يعرض إليها فهذا القرآن يقرأ على جهة القربة إلى اللّه وفيه ما قالت اليهود والنصارى في حق اللّه تعالى من الكفر وهي كلمات يتعبد بتلاوتها وتتولى يوم القيامة عذاب أصحابها والحروف الهوائية اللفظية لا يدركها موت بخلاف الرقمية لأن شكل الرقمي يقبل التغير والزوال لأنه بمحل يقبل ذلك، واللفظي في محل لا يقبله فلهذا كان له البقاء فالجو كله مملوء من كلام العالم يراه صاحب الكشف صوراً قائمة‏.‏

- ‏(‏حم ق عن أبي هريرة‏)‏ وفي الباب غيره أيضاً‏.‏

2062 - ‏(‏إن العبد‏)‏ أي الإنسان المؤمن ‏(‏إذا قام يصلي‏)‏ فرضاً أو نفلاً ‏(‏أتي‏)‏ بالبناء للمفعول أي جاءه الملك أو من شاء اللّه من خلقه بأمره ‏(‏بذنوبه كلها‏)‏ ظاهره يشمل الكبائر وقياس ما يجئ في نظائره استثناؤها ‏(‏فوضعت على رأسه وعاتقيه‏)‏ تثنية عاتق وهو ما بين المنكب والعنق وهو محل الرداء ويذكر ويؤنث ثم يحتمل أن الموضوع الصحف التي هي فيها ويحتمل أن تجسد ويحتمل أنه مجاز على التشبيه ‏(‏فكلما ركع أو سجد تساقطت عنه‏)‏ حتى لا يبقى عليه ذنب وذكر الركوع والسجود ليس للاختصاص بل تحقيقاً لوجه التشبيه فإن من وضع شيء على رأسه لا يستقر إلا ما دام منتصباً فإذا انحنى تساقط فالمراد أنه كلما أتم ركناً من الصلاة سقط عنه ركن من الذنوب حتى إذا أتمها تكامل السقوط وهذا في صلاة متوفرة الشروط والأركان والخشوع كما يؤذن به لفظ العبد والقيام إذ هو إشارة إلى أنه قام بين يدي ملك الملوك مقام عبد حقير ذليل ومن لم يكن كذلك فصلاته التي هي أعظم الطاعات أعظم إبعاداً له عن اللّه من الكبائر‏.‏

- ‏(‏طب حل هق عن ابن عمر‏)‏ بن الخطاب قال الهيثمي فيه عبد للّه بن صالح كاتب الليث ضعفه الجماعة أحمد وغيره‏.‏

2063 - ‏(‏إن العبد‏)‏ أي القن ‏(‏إذا نصح لسيده‏)‏ أي قام بمصالحه عن وجه الخلوص وامتثل أمره وتجنب نهيه ويقال نصحته ونصحت له قال الطيبي‏:‏ واللام مزيدة للمبالغة‏.‏ قال الكرماني‏:‏ النصيحة كلمة جامعة معناها حيازة الحظ للمنصوح وهي إرادة صلاح حاله وتخليصه من الخلل وتصفية الغش ‏(‏وأحسن عبادة ربه‏)‏ المتوجهة عليه بأن أقامها بشروطها وواجباتها وما يمكنه من مندوباتها بأن لم يفوت حق السيد ‏(‏كان له أجره مرتين‏)‏ لقيامه بالحقير وانكساره بالرق قال البعض وليس الأجران متساويين لأن طاعة اللّه أوجب من طاعة المخلوق ورده أبو زرعة بأن طاعة المخلوق هنا من طاعة اللّه ثم التضعيف يختص بالعمل الذي يتحد فيه طاعة اللّه وطاعة السيد فيعمل عملاً واحداً يؤجر عليه ‏[‏ص 369‏]‏ باعتبارين أما العمل المختلف الجهة فلا يختص العبد بتضعيف الأجر فيه على الحر فالمراد ترجيح العبد المؤدي للحقين على العبد المؤدي لأجرهما‏.‏

- ‏(‏مالك‏)‏ في الموطأ ‏(‏حم ق د عن ابن عمر‏)‏ بن الخطاب‏.‏

2064 - ‏(‏إن العبد‏)‏ أي الإنسان ‏(‏ليذنب‏)‏ أي يوقع ويفعل ‏(‏الذنب فيدخل به‏)‏ بسببه ‏(‏الجنة‏)‏ لأن الذنب مستجلب للنوبة والاستغفار الذي هو موقع محبة اللّه ‏{‏إن اللّه يحب التوابين‏}‏ واللّه لا يدخل من يحبه النار ‏(‏يكون نصب عينيه‏)‏ أي مستحضراً استحضاراً تاماً كأنه يشاهده أبداً تائباً إلى اللّه تعالى فاراً منه إليه حتى يدخل به الجنة لأنه كلما ذكره طار عقله حياء وحشمة من ربه حيث فعله وهو بمرأى منه ومسمع فيجد في توبته ويتضرع في إنابته بخاطر منكس وقلب حزين واللّه يحب كل قلب حزين كما مر في خبر ومن أحبه أدخله جنته ورفع منزلته قال الداراني‏:‏ ما عمل داود عملاً أنفع له من الخطيئة ما زال يهرب منها إلى اللّه حتى اتصل باللّه وإنما يخلي اللّه بين المؤمن والذنب ليوصله إلى هذه الدرجة ويحله هذه الرتبة فيجذبه إلى نفسه ويؤديه في كنفه ويصونه عمن سواه ولا يعارض ما تقرر خبر الذنب شؤم لأنه شؤم على من لم يوفق للتوبة والإنابة‏.‏

- ‏(‏ابن المبارك‏)‏ في الزهد عن المبارك بن فضالة ‏(‏عن الحسن‏)‏ يعني البصري ‏(‏مرسلاً‏)‏ ولأبي نعيم نحوه‏.‏

2065 - ‏(‏إن العبد إذا كان همه الآخرة‏)‏ أي عزمه أي ما يقربه إليها ‏(‏كف اللّه تعالى‏)‏ أي جمع ‏(‏عليه ضيعته‏)‏ أي ما يكون منه معاشه كصنعة وتجارة وزراعة أو راد رد اللّه عليه ما ضاع له أي ما هو منزل منزلته ‏(‏وجعل غناه في قلبه فلا يصبح إلا غنياً‏)‏ باللّه ‏(‏ولا يمسي إلا غنياً‏)‏ به لأن من جعل غناه في قلبه صارت همته للآخرة وأتاه ما قدر له من الدنيا في راحة من بدنه وفراغ من سره والصباح والمساء كناية عن الدوام والاستمرار ‏(‏وإذا كان همه الدنيا أفشى اللّه‏)‏ أي يكثر تعالى ‏(‏عليه ضيعته‏)‏ ليشتغل عن الآخرة فيصير قد تشعبت الهموم قلبه وتوزعت أفكاره فيبقى متحيراً ضائعاً لا يدري ممن يطلب رزقه ولا ممن يلتمس رفقه، فهمه شعاع وقلبه أوزاع ‏(‏جعل فقره بين عينيه‏)‏ يشاهده ‏(‏فلا يمسي إلا فقيراً ولا يصبح إلا فقيراً‏)‏ خص المساء والصباح لأنهما وقت الحاجة للتقوت غالباً وإلا فالمراد أن غناه يكون حاضراً أبداً وفقره كذلك والدنيا فقر كلها لأن حاجة الراغب فيها لا تنقضي فهي كداء الظمأ كلما زاد صاحبه شرباً ازداد ظمأ فمن كانت الدنيا نصب عينيه صار الفقر بين عينيه وتفرق سره وتشتت أمره وتعب بدنه وشرهت نفسه وازدادت الدنيا منه بعداً وهو لها أشد طلباً فمن رأى نفسه مائلة إلى الآخرة فليشكر ربه على ذلك ويسأله الازدياد من توفيقه ومن وجد نفسه طامحة إلى الدنيا فليتب إلى اللّه ويستغيث به في إزالة الفقر من بين عينيه والحرص من قلبه والتعب من بدنه‏.‏ قال ابن القيم‏:‏ ولولا سكرة عشاق الدنيا لاستغاثوا من هذا العذاب على أن أكثرهم لا يزال يشكو ويصرخ منه ومن عذابهم اشتغال القلب والبدن بتحمل أنكاد الدنيا ومجاذبة أهلها إياها ومقاساة معاداتهم ومن أحب الدنيا فليوطن نفسه على تحمل المصائب، ومحب الدنيا لا ينفك من ثلاث هم لازم وتعب دائم وحسرة لا تنقضي‏.‏

- ‏(‏حم في الزهد‏)‏ أي في كتاب الزهد له ‏(‏عن الحسن مرسلاً‏)‏ وهو البصري‏.‏

2066 - ‏(‏إن العبد إذا صلى‏)‏ فرضاً أو نفلاً ‏(‏في العلانية‏)‏ بالتخفيف كما في المصباح أي حيث يراه الناس وإعلان الشيء ‏[‏ص 370‏]‏ إظهاره وعلن ظهر وأمر علان ظاهر ‏(‏فأحسن‏)‏ صلاته-بأن أتى بما يطلب فيها من أركان وشروط ومستحبات من خشوع ونحوها كان وافقاً عند حدود اللّه ممتثلاً لأوامره مجتنباً لمناهيه- ‏(‏وصلى في السر‏)‏ أي حيث لا يراه الناس وهو ضد العلن ‏(‏فأحسن قال اللّه تعالى‏)‏ مظهراً لثنائه على ذلك العبد الملأ الأعلى ناشراً لفضله منوهاً برفع درجته إلى مقام العبودية الذي هو أفخر المقامات وأسنى الدرجات -أي فيحبونه ثم تقع محبته في قلوب أهل الأرض فهذا هو العبد الذي يوصف بأنه قائم على قدم الطاعة- ‏(‏هذا عبدي حقاً‏)‏ مصدر مؤكد أي حق ذلك حقاً وأراد بالإحسان فيها أن يصليها محتملاً لمشاقها محافظاً على ما يجب فيها من إخلاص القلب وحفظ النيات ودفع الوسواس ومراعاة الآداب والاحتراس من المكاره مع الخشية والخشوع واستحضار العلم بأنه انتصب بين يدي جبار السماوات ليسأل فك الرقاب من سخطه‏.‏

- ‏(‏ه عن أبي هريرة‏)‏ وفيه بقية وقد سبق عن ورقاء اليشكري وقد أورده الذهبي في الضعفاء وقال لينه ابن القطان‏.‏

2067 - ‏(‏إن العبد ليؤجر في نفقته كلها‏)‏ أي فيما ينفقه على نفسه وعلى من عليه مؤونته ‏(‏إلا في البناء‏)‏ الذي لا يحتاجه أو المزخرف أما بيت يقيه من نحو حر وبرد ولص أو جهة قريبة كمسجد ومدرسة ورباط وحوض ومصلى عيد ونحوها فمطلوب محبوب وفاعله على الوجه المطلوب شرعاً محتسباً مأجوراً لأن المسكن كالغذاء في الاحتياج إليه وفضل بناء المساجد ونحوها معروف وعلى الزائد على الحاجة ينزل خبر القبة السابق وما ذكر من أن اللفظ إلا في البناء هو ما في خط المصنف فمن زعم أنه إلا في البنيان لم يصب وإن كانت رواية‏.‏

- ‏(‏ه عن خبات‏)‏ بن الأرت‏.‏

2068 - ‏(‏إن العبد ليتصدق بالكسرة‏)‏ من الخبز ابتغاء وجه اللّه ‏(‏تربو‏)‏ أي تزيد ‏(‏عند اللّه حتى تكون‏)‏ في العظم ‏(‏مثل أحد‏)‏ بضمتين الجبل المعروف قال في المطامح‏:‏ المراد به كثرة جزائها والثواب المترتب عليها لا أنها تكون كالجبل حقيقة لأنها تفنى وتنقضي عند تناولها ويحتمل أن يخلق اللّه مثلها من جنسها على صفة خبز الجنة‏.‏

- ‏(‏طب عن أبي برزة‏)‏ قال الهيثمي فيه سوار بن مصعب وهو ضعيف‏.‏

2069 - ‏(‏إن العبد إذا لعن شيئاً‏)‏ آدميا أو غيره بأن دعى عليه بالطرد والبعد عن رحمة اللّه تعالى ‏(‏صعدت‏)‏ بفتح فكسر ‏(‏اللعنة إلى السماء‏)‏ لتدخلها ‏(‏فتغلق أبواب السماء دونها‏)‏ لأنها لا تفتح إلا لعمل صالح ‏{‏إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه‏}‏ ‏(‏ثم تهبط‏)‏ أي تنزل ‏(‏إلى الأرض‏)‏ لتصل إلى سجين ‏(‏فتغلق أبوابها دونها‏)‏ أي تمنع من النزول ‏(‏ثم تأخذ يميناً وشمالاً‏)‏ أي تتحير فلا تدري أين تذهب ‏(‏فإذا لم تجد مساغاً‏)‏ أي مسلكاً وسبيلاً تنتهي إليه لمحل تستقر فيه ‏(‏رجعت إلى الذي لعن‏)‏ بالبناء للمفعول بضبط المصنف ‏(‏فإن كان لذلك‏)‏ أي اللعنة ‏(‏أهلاً‏)‏ رجعت إليه فصار مطروداً مبعوداً فإن لم يكن أهلاً لها ‏(‏رجعت‏)‏ بإذن ربها -قوله بإذن ربها‏:‏ والدليل عليه ما رواه الإمام أحمد بسند جيد عن ابن مسعود قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول إن اللعنة إذا وجهت إلى من وجهت إليه فإن أصابت عليه سبيلاً أو وجدت فيه مسلكاً وقعت عليه وإلا قالت يا رب وجهت إلى فلان فلم أجد فيه مسلكاً ولم أجد عليه سبيلاً، فيقال ارجعي من حيث جئت، يعني إلى قائلها- ‏(‏إلى قائلها‏)‏ لأن اللعن طرد عن رحمة اللّه فمن طرد ما هو أهل لرحمته ‏[‏ص 371‏]‏ عن رحمته فهو بالطرد والإبعاد عنها أحق وأجدر، ومحصول الحديث التحذير من لعن من لا يستوجب اللعنة والوعيد عليه بأن يرجع اللعن إليه ‏{‏إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار‏}‏‏.‏

- ‏(‏ه‏)‏ في الأدب عن أبي الدرداء ورواه عنه أيضاً الطبراني في الأوسط وفيه عنده داود بن المحبر ضعيف ولما عزاه ابن حجر في الفتح إلى أبي داود وقال سنده جيد وله شاهد عند أحمد من حديث ابن مسعود بسند حسن وآخر عند أبي داود والترمذي عن ابن عباس ورواته ثقات لكنه أعل بالإرسال، هكذا قال‏.‏

2070 - ‏(‏إن العبد‏)‏ في رواية إن المؤمن ‏(‏إذا أخطأ خطيئة‏)‏ في رواية أذنب ذنباً ‏(‏نكتت‏)‏ بنون مضمومة وكاف مكسورة ومثناة فوقية مفتوحة ‏(‏في قلبه‏)‏ لأن القلب كالكف يقبض منه بكل ذنب أصبع ثم يطبع عليه ‏(‏نكتة‏)‏ أي أثر قليل كنقطة ‏(‏سوداء‏)‏ في صقيل كمرآة وسيف وأصل النكتة نقطة بياض في سواد وعكسه قال الحرالي‏:‏ وفي إشعاره إعلام بأن الجزاء لا يتأخر عن الذنب وإنما يخفى لوقوعه في الباطن وتأخره عن معرفة ظهوره في الظاهر ‏(‏فإن هو نزع‏)‏ أي قلع عنه وتركه ‏(‏واستغفر اللّه وتاب‏)‏ إليه توبة صحيحة ونص على الإقلاع والاستغفار مع دخولهما في مسمى التوبة إذ هما من أركانهما اهتماماً بشأنهما ‏(‏صقل‏)‏ وفي نسخة سقل بسين مهملة أي رفع اللّه تلك النكتة فينجلي ‏(‏قلبه‏)‏ بنوره كشمس خرجت عن كسوفها فتجلت ‏(‏وإن عاد‏)‏ إلى ذلك الذنب أو غيره ‏(‏زيد‏)‏ بالبناء للمفعول ‏(‏فيها‏)‏ نكتة أخرى وهكذا ‏(‏حتى تعلو على قلبه‏)‏ أي تغطيه وتغمره وتستر سائره كمرآة علاها الصدأ فستر سائرها وتصير كمنخل وغربال لا يعي خيراً ولا يثبت فيه خير ومن ثم قال بعض السلف المعاصي بريد الكفر أي رسوله باعتبار أنها إذا أورثت القلب هذا السواد وعمته يصير لا يقبل خيراً قط فيقسو ويخرج منه كل رأفة ورحمة وخوف فيرتكب ما شاء ويفعل ما أراد ويتخذ الشيطان ولياً من دون اللّه فيضله ويغويه ويعده ويمنيه ولا يقنع منه بدون الكفر ما وجد إليه سبيلاً ‏{‏ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون اللّه فقد خسر خسراناً مبيناً‏}‏ ‏(‏رهو الران‏)‏ أي الطبع -قال العلقمي هو شيء يعلو على القلب كالغشاء الرقيق حتى يسود ويظلم- ‏(‏الذي ذكره اللّه‏)‏ تعالى في كتابه بقوله عز قائلاً ‏(‏كلا بل ران‏)‏ أي غلب واستولى ‏(‏على قلوبهم‏)‏ الصدأ والدنس ‏(‏ما كانوا يكسبون‏)‏ من الذنوب قال القاضي‏:‏ المعنى بالقصد الأول في التكليف بالعمل الظاهر والأمر بتحسينه والنهي عن قبيحه هو ما تكتسب النفس منه من الأخلاق الفاضلة والهيئات الذميمة فمن أذنب ذنباً أثر ذلك في نفسه وأورث لها كدورة فإن تحقق قبحه وتاب عنه زال الأثر وصارت النفس صقيلة صافية وإن انهمك وأصر زاد الأثر وفشي في النفس واستعلى عليها فصار طبعاً وهو الران، وأدخل التعريف على الفعل لما قصد به حكاية اللفظ فأجرى مجرى النفس وشبه ثائر النفس باقتراف الذنوب بالنكتة السوداء من حيث كونهما يضادان الجلاء والصفاء وأنث الضمير الذي في كانت العائد لما دل عليه أذنب لتأنيثها على تأول السيئة‏.‏ إلى هنا كلامه، قال الطيبي‏:‏ وروي نكتة بالرفع على أن كان تامة فلا بد من الراجع أي حدث نكتة منه أي من الذنب قال المظهري‏:‏ وهذه الآية نازلة في حق الكفار لكن ذكرها في الحديث تخويفاً للمؤمنين ليحترزوا عن كثرة الذنوب لأن المؤمن لا يكفر بكثرتها لكن يسود قلبه بها فيشبه الكفار في اسوداده فقط وقال الحكيم‏:‏ الجوارح مع القلب كالسواقي تصب في بركة وهي توصل إلى القلب ما يجري فيها فإن أجري فيها ماء الطاعة وصل إلى القلب فصفا، ‏[‏ص 372‏]‏ أو ماء المعصية كدر وأسود فلا يسلم القلب إلا بكف الجوارح وأعظمها غض البصر عما حرم وقال الغزالي‏:‏ القلب كالمرآة ومنه الآثار المذمومة كدخان مظلم يتصاعد إلى مرآة القلب فلا يزال يتراكم عليه مرة بعد أخرى حتى يسود ويظلم ويصير محجوباً عن اللّه تعالى وهو الطبع والرين ومهما تراكمت الذنوب طبع على القلب وعند ذلك يعمى عن إدراك الحق وصلاح الدين ويستهين بالآخرة ويستعظم أمر الدنيا ويهتم بها وإذا قرع سمعه أمر الآخرة وأخطارها دخل من أذن وخرج من أخرى ولم يستقر في القلب ولم يحركه إلى التوبة ‏{‏قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور‏}‏‏.‏

قيل لحكيم‏:‏ لم لا تعظ فلاناً قال ذاك على قلبه قفل ضاع مفتاحه فلا سبيل لمعالجة فتحه ‏.‏

قال حجة الإسلام‏:‏ لا يذنب العبد ذنباً إلا ويسود وجه قلبه فإن كان من السعداء ظهر السواد على ظاهره لينزجر وإلا أخفى عنه لينهمك ويستوجب النار‏.‏

- ‏(‏حم ت ن‏)‏ في التفسير ‏(‏ه‏)‏ في الزهد ‏(‏هب ك هب‏)‏ كلهم ‏(‏عن أبي هريرة‏)‏ وصححه الترمذي وقال الذهبي في المهذب إسناده صالح‏.‏

2071 - ‏(‏إن العبد‏)‏ أي المؤمن ‏(‏ليعمل الذنب‏)‏ الصادق بالكبيرة والصغيرة ‏(‏فإذا ذكره أحزنه‏)‏ أي أسف على ما كان منه وندم ‏(‏وإذا نظر اللّه إليه قد أحزنه غفر له ما صنع‏)‏ من الذنب ‏(‏قبل أن يأخذ في كفارته‏)‏ أي يشرع فيما يكفره ‏(‏بلا صلاة ولا صيام‏)‏ لأن العبد المؤمن يرى ذنوبه كأنها في أصل جبل يخاف أن يقع عليه والفاجر يرى ذنوبه كذباب يقع على أنفه قال به هكذا فطار ومن يرى ذنوبه كأنها في أصل جبل يكون في غاية الحذر منها فإذا صدرت منه هفوة اشتعلت نار الخوف والحزن في قلبه ومع ذلك لا يرجو لغفرها سوى ربه فهذا عبد أواه مقبل على ربه متبريء مما سواه نازح عن المظالم فار من المآثم وهو الذي أراده اللّه من عباده ليغفر له قبل الاستغفار اللساني هكذا فافهم‏.‏

- ‏(‏حل وابن عساكر‏)‏ في التاريخ كلاهما عن عيسى بن خالد اليماني عن صالح المري عن هشام بن محمد ‏(‏عن أبي هريرة‏)‏ ثم قال أبو نعيم غريب من حديث هشام وصالح لم يكتبه من حديث عيسى انتهى وقال الحافظ العراقي فيه صالح المري رجل صالح لكنه مضعف في الحديث‏.‏

2072 - ‏(‏إن العبد‏)‏ المؤمن المخلص ‏(‏إذا وضع في قبره‏)‏ بالبناء للمفعول ‏(‏وتولى عنه‏)‏ أي أعرض ‏(‏أصحابه‏)‏ المشيعون له من أهله وأصدقائه ‏(‏حتى إنه‏)‏ بكسر همزة إن لوقوعها بعد حتى الابتدائية ‏(‏يسمع قرع نعالهم‏)‏ أي صوتها عند الرؤوس قال القاضي‏:‏ يعني لو كان حياً فإن جسده قبل أن يأتيه الملك فيقعده ميت لا حس فيه انتهى وسيجيء ما ينازع فيه قال الطيبي‏:‏ وقوله ‏(‏أتاه‏)‏ جواب الشرط والجملة خبر إن وقوله وإنه يسمع قرع نعالهم إما حال بحذف الواو أو كأحد الوجهين في قوله تعالى ‏{‏ويوم القيامة ترى الذين كذبوا‏}‏ الآية ‏(‏ملكان‏)‏ بفتح اللام منكر ونكير بفتح كاف الأول وكلاهما ضد المعروف سميا به لأنهما لا يشبه خلقهما خلق آدمي ولا ملك ولا غيرهما وهما أسودان أزرقان جعلهما اللّه نكرة للمؤمن ليبصره ويثبته وعذاباً على غيره ‏(‏فيعقدانه‏)‏ حقيقة بأن ‏[‏ص 373‏]‏ يوسع اللحد حتى يجلس فيه زاد في رواية فتعاد روحه في جسده وظاهره في كله ونقله المصنف في أرجوزته عن الجمهور لكن قال ابن حجر‏:‏ ظاهر الخبر في النصف الأعلى وجمع بأن مقرها في النصف الأعلى ولها اتصال بباقيه وقيل وجزم به القاضي والمراد بالإقعاد التنبيه والإيقاظ عما هو عليه بإعادة الروح فيه أجرى الإقعاد مجرى الإجلاس وقد يقال أجلسه من نومه إذا أيقظه والحديث ورد بهما والظاهر أن لفظ الرسول فيجلسانه وبعض الرواة أبدله بيقعدانه فإن الفصحاء يستعملون الإقعاد إذا كان من قيام والإجلاس إذا كان من اضطجاع وهو في ذلك تابع للأثر حيث قال عقب قوله يقعدانه وفي حديث البراء فيجلسانه وهو أولى بالاختيار لأن الفصحاء إنما يستعملون القعود في مقابلة القيام فيقولون القيام والقعود ولا تسمعهم يقولون القيام والجلوس يقال قعد عن قيامه وجلس عن مضجعه واستلقائه وحكى أن نصر بن جميل دخل على المأمون فسلم فقال له اجلس فقال يا أمير المؤمنين لست بمضطجع فأجلس فقال كيف أقول قال اقعد فالمختار من الروايتين الإجلاس لموافقته لدقيق المعنى وتصحيح الكلام وهو الأجدر ببلاغة المصطفى صلى اللّه عليه وسلم ولعل من روى فيقعدانه ظن أن اللفظين بمعنى ولهذا أنكروا رواية الحديث بالمعنى خشية أن يزل في الألفاظ المشتركة فيذهب عن المعنى المراد ورده الطيبي بأن الأقرب الترادف وأن استعمال القعود مع القيام والجلوس مع الاضطجاع مناسبة لفظية ونحن نقول به إذا كانا مذكورين معاً نحو ‏{‏الذين يذكرون اللّه قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم‏}‏ لا إذا لم يكن أحدهما مذكوراً، ألا ترى إلى حديث مجيء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم بعد قوله إذ طلع علينا ولا خفاء أنه عليه الصلاة والسلام لم يضطجع بعد الطلوع عليهم وكذا لم يرد في نص الحديث الاضطجاع ليوجب أن يذكر معه الجلوس ‏(‏فيقولان له‏)‏ الظاهر أن أحدهما يقول لحصول الاكتفاء به لكن لما كان كل منهما بصدد القول نسب إليهما جميعاً ‏(‏ما كنت‏)‏ في حياتك ‏(‏تقول‏)‏ أي أيّ شيء تقوله ‏(‏في هذا الرجل لمحمد‏)‏ أي في محمد صلى اللّه عليه وسلم وقال الطيبي قوله لمحمد بيان من الراوي للرجل أي لأجل محمد ولم يقولا رسول اللّه أو النبي امتحاناً له واغراباً على المسؤول لئلا يتلقى تعظيمه منهما فيقول تقليداً لا اعتقاداً وفهم بعض من لفظ الإشارة أنه يكشف له عن النبي صلى اللّه عليه وسلم حتى يراه عياناً فيقال ما تقول في هذا وأبطله ابن جماعة بأن الإشارة تطلق في كلامهم على الحاضر والغائب كما يقول المرء لصاحبه ما تقول في هذا السلطان وهما لم يرياه ‏(‏فأما المؤمن‏)‏ أي الذي قبض على الإيمان ‏(‏فيقول‏)‏ بعزم وجزم من غير تلعثم ولا توقف ‏(‏أشهد أنه عبد اللّه ورسوله‏)‏ إلى كافة الثقلين ‏(‏فيقال‏)‏ أي فيقول له الملكان المذكوران أو غيرهما ‏(‏انظر إلى مقعدك من النار‏)‏ أبي داود فيقال له هذا بيتك كان في النار ولكن اللّه عصمك ورحمك ‏(‏قد أبدلك اللّه به مقعداً من الجنة‏)‏ أي محل قعودك فيها ‏(‏فيراهما جميعاً‏)‏ أي يرى مقعده من النار ومقعده من الجنة فيزداد فرحاً إلى فرح ويعرف نعمة اللّه عليه بتخليصه من النار وإدخاله الجنة وأما الكافر فيزداد غماً إلى غم وحسرة إلى حسرة بتفويت الجنة وحصول النار له ‏(‏ويفسح له في قبره‏)‏ أي يوسع له فيه ‏(‏سبعون ذراعاً‏)‏ يعني شيئاً كثيراً جداً فالسبعين

‏[‏ص 374‏]‏ للتكثير لا للتحديد كما في نظائره ‏(‏ويملأ عليه خضراً‏)‏ أي ريحاناً ونحوه ويستمر كذلك ‏(‏إلى يوم يبعثون‏)‏ من القبور ‏(‏وأما الكافر‏)‏ أي المعلن بكفره ‏(‏أو المنافق‏)‏ الذي أظهر الإسلام وأبطن الكفر وهذا شك من الراوي أو بمعنى الواو قال ابن حجر‏:‏ والروايات كلها مجمعة على أن كلاً منهما يسأل انتهى وفيه رد لقول ابن عبد البر لا يسأل الكافر لكن رجحه المصنف في أرجوزته قيل والسؤال من خصائص هذه الأمة وقيل لا وقيل بالوقف وقيل والمؤمن يسأل سبعاً والمنافق أربعين صباحاً ‏(‏فيقال له ما كنت تقول في هذا الرجل فيقول لا أدري كنت أقول ما يقول الناس فيقال له لا دريت‏)‏ بفتح الراء ‏(‏ولا تليت‏)‏ من الدراية والتلاوة أصله تلوت أبدلت الواو ياء لمزاوجة دريت ومجموع ذلك دعاء عليه أي لا كنت دارياً ولا تالياً أو أخبار له أي لا علمت بنفسك بالاستدلال ولا اتبعت العلماء بالتقليد فيما يقولون ذكره ابن بطال وغيره وقال الخطابي‏:‏ هكذا يرويه المحدثون وهو غلط وصوابه أتليت بوزن أفعلت من قولك أي ما أتلوته أي ما استطعته ‏(‏ثم يضرب‏)‏ بالبناء للمجهول يعني يضربه الملكان اللذان يليان فتنته ‏(‏بمطراق‏)‏ في رواية بمطرقة بكسر الميم أي بمرزبة كما عبر بها في سنن أبي داود ‏(‏من حديد‏)‏ ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه‏)‏ ظاهره الملكان فقط وليس مراداً بقرينة قوله ‏(‏غير الثقلين‏)‏ الجن والإنس وبقرينة خبر أحمد فيسمعه خلق اللّه كلهم غير الثقلين والمنطوق مقدم على المفهوم وحكمة عدم سماع الثقلين الابتلاء فلو سمعا صار الإيمان ضرورياً وأعرضوا عن نحو المعايش مما يتوقف عليه بقاء الشخص والنوع فيبطل معاشهم ‏(‏ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه‏)‏ وأصل الثقل المتاع المحمول على الدابة وقيل لهما الثقلان لأنهما قطان الأرض فكأنهما ثقلاها ذكره الزمخشري قال القاضي‏:‏ وظاهر الخبر أن السؤال إنما يكون فيمن قبر أما غيره فبمعزل عنه ويشهد له خبر لولا أن لا تدافنوا لدعوات اللّه أن يسمعكم من عذاب القبر قلت بل هو أمر يشمل الأموات ويعمهم حتى من أكله سبع أو طير وتفرق شرقاً وغرباً فإنه تعالى يعلق روحه الذي فارقه يجزئه الأصلي الباقي من أول عمره إلى آخره المستمر على حالتي النمو والذبول الذي تتعلق به الأرواح أولاً فيحيى ويحيى بحياته سائر أجزاء البدن ليسأل فيثاب أو يعذب ولا يستبعد ذلك فإنه تعالى عالم بالجزئيات فيعلم الأجزاء انفصالها ومواقعها ومحالها ويميز بين الأصلي وغيره ويقدر على تعليق الروح بالجزء الأصلي منها حال الانفراد تعليقه به حال الاجتماع فإن البينة عندنا ليست شرطاً للحياة بل لا يستبعد تعليق ذلك الروح الشخص الواحد في آن واحد من تلك الأجزاء المتفرقة في المشارق والمغارب فإن تعلقه ليس على سبيل الحلول حتى يمنعه الحلول وفيه حل المشي بين القبور بنعل لكن يكره كذا قيل واستثنى من السؤال جماعة ووردت أخبار بإعفائهم عنه‏.‏

قال جدي نقلاً عن شيخه العراقي

‏[‏ص 375‏]‏ ظاهر الخبر أن الملكين يأتيان المؤمن والمنافق على صفة واحدة وهو اللائق بالامتحان والاختبار‏.‏